منذ أن رفعت حالة الطوارئ، ومنذ أن توفر قدر من الحريات العامة تنفيذاً لاتفاقية "نيفاشا"، منذ ذلك الحين تكشفت للرأي العام السوداني خطايا وخبايا وأسرار كان نظام حكم "الإنقاذ" حريصاً على إخفائها وحجبها أملاً في أن يأتي يوم ويلفها النسيان. من تلك الخبايا ما أزال عنه الغطاء قبل شهرين الدكتور حسن الترابي الذي أعلن وأكد مشاركة نظام الحكم السوداني في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك عام 1995، خارج مطار أديس أبابا، وهو في طريقه إلى وسط المدينة، وقال الترابي يومذاك إن بعض المشاركين في تلك المؤامرة الفاشلة ما زالوا على قمة نظام الحكم في يومنا هذا. وفي هذا الأسبوع فتحت صفحة جديدة في ملف آخر يحوي اتهامات جد خطيرة ضد عدد من قادة الحكم، وقد تولت هذه المهمة إحدى الصحف السودانية العتيقة والمحترمة، بنشرها سلسلة من المقالات للبروفيسور فاروق محمد إبراهيم كبير المحاضرين في كلية الزراعة التابعة لجامعة الخرطوم. أعلن الدكتور فاروق أنه اعتُقل في أغسطس أو سبتمبر عام 1989، أي بعد شهرين من استيلاء الجماعة الإسلامية على الحكم، وأنه اقتيد معصوب العينين إلى مكان يجهله عرف فيما بعد أنه واحد من "بيوت الأشباح" التي يديرها جهاز الأمن والتي أطلق عليها ذلك الوصف لأن ما يمارس داخلها كان أشبه بما يُرى في أفلام الرعب، وأوضح الدكتور فاروق أنه تعرض لأنواع من التعذيب النفسي والجسدي لعدة أيام قبل أن ينقل إلى سجن طبيعي هو سجن "كوبر" المشهور، وهناك شهد كثيرون، وكاتب هذه الكلمات منهم، آثار التعذيب الجسدي العنيف الذي شمل أغلبية مساحة الجسد. وتحدث الدكتور فاروق عن زميل له في "بيت الأشباح" عُذب بصورة لا يمكن التعبير عنها بالكلمات (حياءً) وانتهى الأمر بأن ذلك المواطن وهو مهندس أصيب بالجنون وكان أن قام بعد إطلاق سراحه بقتل زوجته وأبيها ثم فارق الحياة منتحراً. ورغم مرور عدة أيام على ما نشره الدكتور فاروق في تلك الصحيفة فإنه لم يصدر أي تعليق بالنفي أو الإثبات من أي من المسؤولين الذين وجه لهما الاتهام صراحة، كما لم يصدر أي تعليق من رئاسة الجمهورية أو قيادة الحزب الحاكم، وهو وضع يؤكد أن الاتهام جاء في مكانه. إن ممارسة التعذيب بأشكال وأنواع لم يعرف بها السودانيون من قبل ظلت سمة رئيسة لنظام حكم "الإنقاذ" طوال السنوات العشر الأولى من حكمه ويعد من تعرضوا للتعذيب في العاصمة والأقاليم بالآلاف، ومنهم من مات تحت التأثير المباشر للتعذيب، ومنهم من قضى بعد ذلك متأثراً بالتعذيب، ومنهم من بقي بعاهة مستديمة، ولكن الرقابة الصارمة على النشر قبل رفع حالة الطوارئ لم تسمح لأي من المعذبين أو ذويهم أو غيرهم بإعلان أي شيء، ذلك لآن رجال الأمن كانوا يهددون كل من يعذبونه بأنهم سيعادون لذات الوضع إن هم أعلنوا شيئاً مما حدث لهم حتى لأقرب الأقربين. إن هذا الملف الذي فتحه الدكتور فاروق وتولت نشره صحيفة "الأيام" اليومية يشتمل على آلاف الصفحات الملطخة بآثام لا يمكن حصرها. لقد وضع نظام "الإنقاذ" مجموعة من القوانين تحمي كل من ارتكب أي إثم بالتعذيب من أن توجه إليه أية مساءلة، وهذه هي العقدة الكبرى إذ لا سبيل الآن لمحاكمة من ارتكب حتى جريمة القتل. ولكن ما كشف حتى الآن وما ينتظر أن يكشف عنه الحجاب في الأيام المقبلة من شأنه أن يضع قضية التعذيب في المقدمة ويجعل من الضروري الوصول إلى مخرج يحقق العدالة، وذلك كله متروك للقيادات السياسية المعارضة، حتى لو دعا الأمر إلى الاستنجاد بالقوى الأجنبية ومرافئ العدالة الدولية.